في خضم التوترات الإقليمية وتزايد التضامن الشعبي المغربي مع القضية الفلسطينية، فجرت قناة الجزيرة القطرية جدلا واسعا، بعد نشرها خبرا يدعي أن سفينة تابعة لشركة الشحن العالمية “ميرسك” تنقل عتادا عسكريا إلى إسرائيل عبر الموانئ المغربية، خاصة ميناء طنجة المتوسط.

هذا الخبر المفاجئ، الذي تَـمَّ تداوله بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، أشعل احتجاجات حاشدة في مدن مغربية، رُفعت خلالها شعارات تندد بالتطبيع وتطالب بطرد السفن التي “تحمل أدوات الموت”.

الغريب والمثير، أن الجهة نفسها التي نشرت الخبر – وهي الجزيرة – عادت لاحقا لتنفيه عبر تقرير آخر، تنقل فيه توضيحات شركة “ميرسك” التي أكدت أن السفن المعنية لا تنقل أسلحة ولا ذخائر، بل قطعا صناعية تخص شركاء في برنامج طائرات F-35، ولا علاقة لها بالمجهود الحربي الإسرائيلي.

وبهذا التناقض الصريح، وقعت القناة في فخ التضليل الإعلامي الذي صنعته بنفسها، وجعلت من خبر غير دقيق مادةً لتأجيج الرأي العام.

وهذا التراجع من طرف القناة نفسها، لم يكن كافياً لاحتواء الغضب الشعبي الذي سبق أن اندلع بسبب الخبر الأول، بل زاد من الشكوك حول نية حقيقية وراء افتعال الأزمة، واستغلال مشاعر المغاربة تجاه فلسطين لغايات تتجاوز التعاطف الإنساني.

حراك شعبي كاد يتحول إلى أزمة

الوقع العاطفي العميق للخبر الذي نشرته قناة الجزيرة لم يتوقف عند حدود الغضب الشعبي، بل كاد أن يتحول إلى أزمة ميدانية حقيقية. فقد شهدت بعض الموانئ المغربية، خصوصا في طنجة والدار البيضاء، تحركات احتجاجية واسعة، تخللتها محاولات للاقتراب من المرافئ وقطع بعض المحاور المؤدية إليها، في مشهد كان يمكن أن يؤدي إلى شلل مؤقت في أنشطة تجارية حيوية.

ورغم أن الحراك بقي سلميا في عمومه، إلا أن بعض المناوشات وقعت، خاصة بعدما حاول المتظاهرون منع مرور شاحنات وخدمات لوجستيكية مرتبطة بالميناء.

بل إن مصادر نقابية وإدارية تحدثت عن تأثر جزئي لحركة الشحن خلال تلك الساعات، مما دفع السلطات إلى رفع مستوى الحذر والتدخل السريع لتفادي تصعيد غير محسوب.

ولولا تدخل العقلاء في آخر لحظة، كان المشهد سيتطور نحو فوضى لا تحمد عقباها، خاصة وأن الموانئ المعنية تعد شريانا اقتصاديا حيويا للمغرب ولشركات عالمية كـ”ميرسك” نفسها.

وهذا المشهد يؤكد مرة أخرى أن معلومة مضللة واحدة، حين تصدر عن مصدر إعلامي كبير، قادرة على إثارة زوابع ميدانية، وتعطيل مرافق استراتيجية، وزرع الفوضى في نقطة تماس دقيقة بين الاقتصاد والسيادة.

حملة تضليل أم خطأ مهني؟

حين تتورط وسيلة إعلامية بحجم “الجزيرة” في ترويج خبر بهذه الخطورة، ثم تتراجع عنه لاحقا دون تقديم اعتذار أو تفسير، فإننا لا نكون أمام مجرد خطأ مهني عرضي، بل أمام حملة ممنهجة قد تكون لها أبعاد تتجاوز المعلومة المغلوطة ذاتها.

وقد استغلت القناة الحساسية العالية للشعب المغربي تجاه القضية الفلسطينية، واستخدمت سياق الحرب على غزة لإثارة الرأي العام ضد ميناء طنجة، وضد شركة “ميرسك”، وربما ضد المغرب نفسه كشريك لوجستي في مشروع نقل بحري استراتيجي جديد.

 من “JED-MED Shuttle” إلى فبركة سياسية

أطلقت شركة “ميرسك” في يناير 2024 خطا بحريا جديدا يربط ميناء طنجة المتوسط بميناء جدة السعودي، تحت اسم “JED-MED Shuttle”، بهدف تعزيز الربط التجاري بين البحر الأحمر والبحر المتوسط، وجعل المغرب نقطة ارتكاز لوجستي رئيسية في المنطقة. هذا المشروع اعتُبر إنجازاً استراتيجياً للمغرب وللشراكة المغربية–الخليجية، لكنه أزعج أطرافاً إقليمية تسعى لتعزيز محاور بديلة، وعلى رأسها قطر التي تعمل بالتنسيق مع الجزائر لإقامة خطوط مماثلة تخدم مصالحها الغازية والتجارية.

وبما أن الرد المباشر على “ميرسك” لا يمكن أن يكون اقتصادياً أو لوجستياً في المدى القريب، فقد لجأت بعض الأذرع الإعلامية إلى أسلوب أكثر تأثيراً: شيطنة المشروع إعلامياً، من خلال ربطه ظلماً وعدواناً بإسرائيل والحرب على غزة.

 الإعلام كسلاح استراتيجي

لقد تحول الإعلام، في زمن الصراعات المركبة، من ناقل للخبر إلى صانع للواقع. وهو ما يفعله الإعلام الموجه حين يعيد صياغة الوقائع، ويضخّم جزئيات صغيرة، ويقدّمها في سياق عاطفي وشعبوي يُلهب مشاعر الناس. وحين يكون الهدف استهداف بلد معين أو ضرب شراكة دولية، فإن أقصر طريق لذلك هو اختراق وجدان شعوب المنطقة عبر بوابة فلسطين.

الإعلام بهذا الشكل يصبح أداة في حروب الجيل الخامس، حيث لا حاجة لدبابات أو قنابل، بل يكفي أن تُطلق خبراً مشبوهاً، مدعّماً ببعض الصور المركبة أو التحليلات الموجهة، حتى تزرع الفوضى وتشوّه الحقائق.

ومشكلة هذه الأدوات الإعلامية ليست فقط في كذبها، بل في قدرتها الهائلة على النفاذ إلى العقول، حتى العقول المتعلمة.

 لا لوم على النية الصادقة

رغم كل هذا، فإن المغاربة الذين خرجوا للتظاهر ضد ما اعتقدوا أنه دعم عسكري لإسرائيل، لا يُلامون على نواياهم. بل إن تحركهم كان انعكاساً لوجدان حيّ وموقف مبدئي راسخ تجاه القضية الفلسطينية.

وما حدث هو أنهم وقعوا ضحية معلومة مضللة، وربما توجيه نفسي غير مباشر، عبر إعلام يُفترض فيه المهنية والموضوعية، لكنه اختار أن يلعب بالنار في لحظة مشتعلة.

وهؤلاء المتظاهرون لم يتحركوا ضد وطنهم، بل تحركوا دفاعا عن قيم يؤمنون بها، ولم يكونوا على علم أن الغاية من إثارة الخبر لم تكن دعم غزة بقدر ما كانت تصفية حسابات اقتصادية وسياسية لا علاقة لهم بها.

وهذه الواقعة ليست مجرد حادث إعلامي عابر. إنها درس عميق في كيفية استغلال القضايا العادلة لخدمة أجندات خفية، وفي ضرورة أن يُصبح الوعي الإعلامي جزءاً من ثقافة الشعوب. فبين الدفاع عن فلسطين، والدفاع عن الحقيقة، مساحة يجب ألا نغفلها، لأن من يدافع بالكذب اليوم، قد يهاجمك به غداً.

شاركها.
اترك تعليقاً